الغُمَيصَاءُ بِنتُ ملحَانَ
المُكنَّاة بأمِّ سُلَيمٍ
*****
((ما سمعنا بامرأة قطّ كانت أكرم مهراً من أمّ سُليم ، إذ كان مهرها الإسلام)) ….. (أهل المدينة)
………..
كانت الغميصاء بنت ملحان ـ حين أهلَّ الإسلام بنوره على الأرض ـ نَصَفَاً تخطو نحو الأربعين من عمرها ، وكان زوجها مالك بن النَّضر يُسبِغُ عليها من ظلال حبِّه ، وظليل وِداده ما ملأ حياتها نضرة ورغداً ، وكان أهل ((يثرب)) يغبطون الزَّوج السَّعيد على ما تتحلَّى به عقِيلته من رجاحة العقل ، وبعد النَّظر ، وحُسنِ التَّبَعُّل (حسن التّبعّل: أداء حق الزوج بالطاعة والإحسان) .
وفي ذات يوم من أيام الله الخالدة نفذ إلى يثرب ـ مع الدّاعية المكّيّ مُصعب بن عُمير ـ أوّل شعاع من أشعة الهداية المحمّديّة ، فتفتَّح له قلب الغميصاء كما تتفتّح أزاهير الرّياض لِتباشير الصّباح ، فما لبثت أن أعلنت إسلامها يوم كان المسلمون ـ في المدينة ـ يُعَدُّون على الأصابع .
ثمَّ دعت الزوجة الوفيّة زوجها الأثير لينهل معها من هذا المنهل الإلهيّ العذب الطّهور ، ويحظى بما حظيت به من سعادة الإيمان …
لكنَّ مالك بن النَّضر لم يشرح للدّين الجديد صدراً ، ولا طاب به نفساً ، بل إنّه دعا زوجه بالمقابل إلى الرّجوع عن الإسلام والعودة إلى دين الآباء والأجداد وتشبَّث كل من الزوجين بموقفه ، فالغميصاء تكره أن تعود إلى الكفر بعد الإيمان كما يكره المرء أن يقذف في النّار …
ومالك يتعصَّب لدين الآباء والأجداد في عناد …
وكانت الغميصاء تملك من قوّة الحجَّة ما تُفحِم به زوجها ، وكان في دعوتها من نور الحقّ ما يفضح باطله الضّعيف المتداعي …
وكان لمالك صنم من خشب يعبده من دون الله ، فكانت تُحاجُّه في أمرِهِ قائلةً :
أتعبد جذع شجرة نبت في الأرض التي تطؤها بقدميك ، وترمي فيها فضلاتك ؟! …
أتدعو ـ من دون الله ـ خشبة نجرها لك حبشيّ من صُنَّاع المدينة ؟! .
ولمّا ضاق الزّوج ذرعاً بحجج زوجته الدّامغة ، غادر المدينة ومضى هائماً على وجهه مُتَّجهاً نحو بلاد الشّام ، ثمّ إنّه لم يلبث هناك قليلاً حتّى مات على شِرْكِهِ .
وما إن شاع في المدينة خبر ترمُّل الغميصاء حتّى تشوَّق كثير من الرجال إلى الاقتران بها ، لولا أنّهم كانوا يخشون أن تردّهم خائبين لما بينها وبينهم من الاختلاف في الدّين .
غير أنّ زيد بن سهل المَكْنِيَّ بأبي طلحة أطمَعَهُ في رضاها به ما كان بينهما من روابط القُربى ؛ فكلاهما من بني ((النَّجّار)) .
مضى أبو طلحة إلى بيت الغُميصاء وخاطبها بكُنيتها قائلاً :
يا أمّ سُليم ، لقد جئتُكِ خاطباً ؛ فأرجو ألا أُردَّ خائباً .
فقالت : والله ما مثلك يُردُّ يا أبا طلحة ، ولكنَّك رجل كافر وأنا امرأة مُسلمة ، ولا يحلُّ لي أن أتزوَّجكَ ، فإن تُسلِم فذاك مهري ولا أريد منك صَدَاقاً غير الإسلام .
فقال : دعيني حتّى أنظر في أمري . ومضى …
ولمَّا كان الغد عاد إليها وقال :
أَشْهَدُ أَنَّ لا إِلَهَ إِلا اللهُ ، وَحْدَهُ لا شَرِيْكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدَاً عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .
فقالت : أما وإنَّك قد أسلمت ؛ فقد رضيتك زوجاً … فجعل الناس يقولون :
ما سمعنا بامرأةٍ قطُّ كانت أكرم مهراً من أمّ سُليم إذ كان مهرها الإسلام .
نَعِمَ أبو طلحة بما كانت تتحلَّى به أمّ سُليم من كريم الشمائل ونبيل الخصال ، ثمَّ زاده سعادةً بها أنَّها وضعت له غلاماً غدا قرَّة عينه ، وفرحة قلبه .
لكنَّه بينما كان يتأهَّب لسفر من أسفاره اشتكى الطّفل الصَّغير من عِلّة ألمَّت به ، فجزع عليه جزعاً شديداً كاد يصرفه عن السّفر .
وفي غيبته القصيرة ضعف الغصن النّضير ، ثمَّ وُوري الثّرى ، فقالت أمّ سُليم لأهلها :
لا تُخبروا أبا طلحة بموت ابنه حتّى أُخبره أنا .
عاد أبو طلحة من رحلته فتلقّته أمّ سُليم هاشّة باشّة فرِحةً مستبشرةً ؛ فبادرها بالسؤال عن الصّبي فقالت :
دَعْهُ فإنّه الآن أسكَنُ ما عَرَفتهُ .
ثمَّ قَرَّبت إليه العشاء ، وجعلت تُؤنسه وتدخل على قلبه السّرور ، فلمّا وجدت أنّه شبع واستراح قالت له :
يا أبا طلحة أرأيت لو أنّ قوماً استرجعوا عاريَّةًً أعاروها لآخرين أفمن حقَّهم أن يخطوا عليهم وأن يمنعوها منهم ؟ .
قال : لا .
قالت : إنَّ الله استردَّ منك ما وهبَ ، فاحتسب ولدَكَ عنده …
فتلقَّى أبو طلحة قضاء الله بالرِّضا والتَّسليم .
ولمَّا أصبح غدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وحدَّثه بما كان من أمّ سُليم ، فدعا له ولها بأن يُعوِّضهما الله خيراً ممّا فقداه ، وأن يُبارك لهما في العِوَضِ ؛ فاستجاب الله جلَّ وعزَّ دعاء نبيِّه صلى الله عليه وسلم ، وحملت أمّ سُليم ، ولمَّا أتمَّت حملها كانت عائدة إلى المدينة من سفر هي وزوجها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فلمَّا دنوا من يثرب جاءها المخاض فتوقّف أبو طلحة معها ومضى النّبيّ الكريم صلى الله عليه وسلم يُريد دخول المدينة قبل أن يجِنَ عليه اللّيل ، فرفع أبو طلحة طَرفَه إلى السّماء وقال :
إنَّك لتعلم يا ربُّ أنَّه يُعجبني أن أخرج مع رسولك إذا خرج ، وأن أدخل معه إذا دخل وقد منعني من ذلك ما ترى .
فقالت له أمّ سُليم :
يا أبا طلحة إنِّي ـ والله ـ لا أجِد من ألم المخاض بهذا المولود ما كنت أجده من قبل ، فانطلِق بنا ولا تتأخَّر عن صُحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فانطلقا حتّى إذا بلغا المدينة وضعت حملها ، فإذا هو غلام ، فقالت لمن حولها :
لا يُرضِعهُ أحدٌ قبل أن تذهبوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم .
فلمَّا أصبح حمله إليه أخوه أنس بن مالك ، فلمّا رآه النبي صلى الله عليه وسلم مُقبلاً قال :
لعلَّ أمّ سُليم ولَدَت .
فقال : نعم يا رسول الله … ووضع الغلام في حِجرِه ، فدعا بعَجوةٍ من عجوِ المدينة ولاكها في فمه الشّريف حتّى ذابت ، ووضعها في فمِ الصَّبي ، فجعل يتلمَّظها ، ثمَّ مسح وجهه بيده الكريمة ، وسمَّاه عبد الله ، فجاء من صُلبه عشرة من علماء الإسلام الأخيار .
ولقد كان من شأن أمّ سُليم أنّها أحبَّت رسول الله صلوات الله وسلامه عليه حُبَّاً خالط منها اللَّحم والعظم ، وسكن في حَبَّةِ القلب .وقد بلغ من حُبِّها له ما حدَّث عنه ابنها أنس قال :
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نائماً في بيتنا ذات نهارٍ ؛ وكطان الحرُّ شديداً ، فأخذ العرق يتصبَّب من جبينه ، فجاءت أمِّي بقارورة ، وجعلت تُسلِتُ فيها العرق ؛ فاستيقظ النبي عليه الصلاة والسلام وقال :
ما هذا الذي تصنعين يا أمّ سُليم ؟! .
قالت : هذا عرقُكَ أجمعه وأجعله في طِيبنا ، فيغدو أطيب الطّيب .
ومن شواهد حُبِّها لرسول الله صلوات الله وسلامه عليه وهي كثيرة وفيرة ، أنَّ ابنها أنساً كانت له ذؤابة(ذؤابة: خصلة من الشعر في مقدّمة الرأس) تتمايل على جبينه ، فرغب إليها زوجها أن تقصُّها له بعد أن طالت فأبت ذلك لأنَّ النبي صلوات الله وسلامه عليه كان كلَّما أقبل عليه أنس مسح رأسه بيده ومسَّ ذُؤابته المُدلاة على جبينه .
ولم تقتصر خصائل أمّ سُليم على أنّها كانت مؤمنة راسخة الإيمان ، عاقلة وافرة العقل ، زوجاً وأمَّاً من الطّراز الأوَّل …
وإنّما كانت فوق ذلك كلِّه مجاهدةً في سبيل الله .
فلكم ملأت رئتيها من غبار المعارك العبق بطيوب الجنَّة !! .
وخضَّبت أناملها من جراح المجاهدين ، وهي تمسحها بيديها وتُحكم عليها الضّماد .
ولكم سكبت الماء في حلوق العطاش وهم يجودون بنفوسهم في سبيل الله …
وحملت لهم الزّاد … وأصلحت السّهام .
لقد شهدت ((أُحداً)) هي وزوجها أبو طلحة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودأبت هي وعائشة رضوان الله عليهما على نقل قِرَبِ الماء على ظهريهما وإفراغها في أفواه القوم .
كما شهدت ((حُنيناً)) أيضاً ، وقد اتخذت لنفسها يومذاك خِنجراً وتمنطقت به ، فلمَّا رآه زوجها أبو طلحة قال :
يا رسول الله ، هذه أمّ سُليم معها خِنجر .
فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم :
ما هذا يا أمّ سُليم ؟! .
قالت : خِنجر اتخذته حتّى إذا دنا منّي أحد من المشركين بَقَرتُ به بطنه …
فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يضحك سروراً بما قالت .
وبعد …
أفتظُنُّ أنَّ على ظهر الأرض امرأة أسعد سعادة وأزهى خاتمة من أمّ سُليم بعد أن قال فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(( دخلتُ الجنَّة فسَمِعتُ فيها خشفَةً (خشفة: حركة مشي) …
فقلت : من هذا ؟! .
قالوا : الغُميصاء بنت مِلحان أمُّ أنس بن مالكٍ )) .
المصدر
كتاب صور من حياة الصحابيّات للدكتورعبد الرحمن رأفت الباشا رحمه الله
يتبع